أوردت تقارير غربية، أنّ بعض النخب الثقافية والأكاديمية والإعلامية الإسرائيلية، بدأت منذ أيام الترويج لنظرية وجوب إنهاء الحرب على غزة ولبنان، لأنّ فاتورتها أمست مرتفعة الكلفة، إذ بلغت قيمة الأضرار الناجمة عن الحرب التي أعلنها بنيامين نتنياهو حتى اليوم في كل قطاعات الدولة العبرية، ما بين الـ 8,6 إلى 9 مليارات دولار، فيما التكلفة اليومية للحرب الجوية والبرية والبحرية بلغت يومياً ما بين الـ130 إلى 150 مليون دولار، بالإضافة إلى استدعاء 330 ألف جندي في الاحتياط لدى إعلان الحرب إلى الخدمة، وقد أصبح هؤلاء خارج الدورة الاقتصادية، ممّا يراكم الخسائر المادية ويضاعفها، عدا المشكلات الاجتماعية والنفسية التي تسبّبت بها هذه الحرب للجنود والمواطنين على حَدٍّ سواء.من هنا، وجدت هذه النخب ضرورة وقف الحرب وإعلان انتصار إسرائيل، على أن يُواكب ذلك بحملة إعلامية، دعائية ضخمة تمهّد لهذا الإعلان. وبدأ الإعلام الإسرائيلي يبث تقارير تشير إلى اتجاه قيادة الجيش لإعلان وقف العمليات الحربية في جنوب لبنان والانسحاب من المواقع التي احتلها جيشها في اعتبار أنّها حققت الانتصار.
وتزعم أنّ هذه النظرية تجد مَن يؤيّدها في واشنطن ويروّج لها، انطلاقاً من أنّ الانزلاق أكثر فأكثر في دوامة العنف من دون وضوح في الأفق، على رغم من وضوح «بنك الاهداف» الذي حدّدته حكومة نتنياهو، قد يقود إلى منعطفات خطيرة تتمثل باحتمال نشوب حرب أقليمية لا حدود لمدى امتداداتها.
وترى النخب الإسرائيلية ومَن يؤيّدها في الإدارة الأميركية، أنّ إسرائيل في استطاعتها أن تعلن انتصارها بناءً على المعطيات الآتية:
1 – في غزة: القضاء على قيادات «حماس» وفي مقدّمها إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وكوادر أساسية في الحركة، وشَلّ قدرتها على المقاومة بعد تدمير الجزء الأكبر من بنيتها العسكرية والأمنية كما الأنفاق، وانتفاء إمكان تشكيلها أي خطر على مدن ومستعمرات غلاف هذا القطاع، في ضوء تراجع قوتها النارية إلى الحدود الدنيا.
2 – في لبنان: القضاء على الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي ارتقى شهيداً في غارة نفّذها الطيران الإسرائيلي، وعلى رئيس الهيئة التنفيذية في الحزب السيد هاشم صفي الدين، وقائد قوة «الرضوان» إبراهيم عقيل، ومن قبل فؤاد شكر، والعديد من قيادات هذه القوة. وهو ما أضعف الحزب وحَدّ كثيراً من قدراته، بعد الضربات التي تلقاها. وإنّ ما حلّ به كان خسارة مدوّية.
لكنّ قراءة متأنّية في هذا الطرح، ونظرية «الانتصار»، بحسب بعض المراقبين ترى أنّ إسرائيل لم تحقّق ما تطمح إليه فعلاً على رغم من الدمار الهائل التي تسبّبت به غاراتها الجوية وقصفها المدفعي في قطاع غزة ولبنان. وفي نظرة إلى الميدان لا بُدّ من تسجيل الآتي:أولاً: كان هدف الدولة العبرية القضاء على قيادات «حماس» وتحرير الرهائن ووقف عمليات المقاومة. وهي وإن استطاعت توجيه ضربة موجعة باغتيال قادة بارزين في الحركة وتدمير معظم الأنفاق، والحَدّ من قدرتها النارية، فإنّها عجزت عن تحرير من تبقّى من الرهائن الإسرائيليِّين المَوجودين لديها، مع الإشارة إلى أنّ تحرير هؤلاء كان البند الرئيس في سلسلة المطالب التي رفعها نتنياهو كشرط لوقف الحرب على القطاع.
كذلك، فإنّ المقاومة في غزة لا تزال تقوم بعمليات نوعية ضدّ الجيش الإسرائيلي في القطاع، وتُثبِت حضورها الفاعل في الميدان. لكنّ إسرائيل نجحت بامتياز في الإبادة الجماعية للمدنيِّين في غزة وإلحاق دمار غير مسبوق، لم يسبق أن شهد التاريخ الحديث نظيراً له، للبنى التحتية والمعالم العمرانية والحياة فيها.
ثانياً: أمّا في لبنان، فإنّ المعركة التي عوّلت عليها إسرائيل لإحراز انتصار يمكّنها من فرض شروطها وإلزام «حزب الله» بها، هي المعركة البرية، وقد خطّطت لاحتلال بقعة تتراوح بين الـ3 والـ7 كيلومترات جنوب الليطاني، والتمركز فيها إلى حين بدء المفاوضات مع لبنان لإملاء مطالبها عليه وحمله على القبول باقتراحها القاضي بتجاوز القرار الأممي 1701 إلى ترتيبات أمنية جديدة ترتكز إلى القرار 1559، وإعطائها الحَقّ في التدخّل المباشر في الحالات التي تعتبر أنّ تدخّلها مبرّر.لكنّ وقائع الأرض خيّبت توقعاتها بعدما حققت توغلاً متواضعاً يتراوح بين 300 إلى 500 متر على حدودها مع لبنان، وتكبّدت خسائر بشرية أعلنت عنها رسمياً تقارب الـ60 قتيلاً و600 جريح. في حين أنّ تقارير وردت من الداخل الإسرائيلي، وأخرى صدرت عن جهات قريبة من المقاومة، تؤكّد بأنّ أعداد القتلى والجرحى يفوق عن تلك التي تصرّح بها تل أبيب.
إلى ذلك، تبيّن أنّ «حزب الله»، وعلى رغم من الخسائر الكبيرة التي مُنيَ بها، لا يزال يحتفظ بالقيادة والسيطرة، وظلّ قادراً على توجيه الصواريخ إلى المستعمرات الشمالية، وحيفا وما بعدها وصولاً إلى تل أبيب وغلافها. بالإضافة إلى استحالة عودة النازحين من هذه المستعمرات إلى بلداتهم وبيوتهم.
ويبدو أنّ ثمة بحثاً جاداً بدأ في الدوحة ضمن اللجنة الثلاثية، وسيبدأ مع وصول آموس هوكشتاين إلى تل أبيب من أجل التوصّل إلى اتفاق لإنهاء الحرب في كل من غزة ولبنان.
وعلى رغم من أنّ وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن أشار إلى مسؤولية إسرائيل و»حزب الله» في عدم الالتزام بتطبيق القرار الرقم 1701، فإنّ بنيامين نتنياهو سيظل يسعى – ولو تحقق وقف إطلاق النار – إلى الإلتفاف على هذا القرار، لأنّ الاكتفاء به كقاعدة يُبنى عليها إنهاء الحرب، يحجب عنه الانتصار الذي ينشد.في أي حال، فإنّ هناك أياماً عصيبة قبل أن تنجلي الغيوم في انتظار نتائج الإنتخابات الأميركية، ومعرفة ما سيكون عليه موقف إيران حيال الردّ الإسرائيلي عليها، لأنّ الغموض الذي تعتمده مقلق، ولا يُريح واشنطن وتل أبيب، ويبقيهما في حال ترقّب وحذر، وعدم التسرّع في الجزم بأنّها لن تبادر إلى الثأر من الهجوم الأخير عليها، ولا في توقّع حجمه ومدى ردّ فعلها: تصعيد أو تهدئة على قاعدة: واحدة بواحدة.فهذا الغموض يفتح باباً للتكهّنات قبل التأكّد من نياتها واستعداداتها. فهل ما روّجت له النخب منذ أيام وتطرّقت إليه وسائل الإعلام في إسرائيل وسواها من البلدان، قابل للتطبيق، وبأي ثمن سيتخلّى «بيبي» عن جموحه وأهدافه الخطيرة؟ لن يطول الوقت حتى تتظهّر الصورة بكل أبعادها.
الجمهورية