الضربة الإنتقامية التي نفّذتها إسرائيل ضدّ إيران جاءت مدروسة ومضبوطة وتحت السقف الذي رسمته الإدارة الأميركية، وانتهت الى ما يشبه قبول الجميع بما تحقق. تل أبيب تحدثت عن تحقيق أهداف عسكرية عدة، وردّ فعل طهران كان هادئاً، أما واشنطن فاعتبرت أنّ المسلسل قد أنتهى.إلّا أنّ ما حصل طرح عدداً من الأسئلة المحقة حول الأسرار والخفايا التي واكبت هذا الإنتقام الغريب. فقبل حصوله ارتفع الضجيج حول قرب اندلاع الحرب الشاملة، ودخل الملف على خط النزاع الإنتخابي الأميركي، الى درجة أنّ المرشح الجمهوري دونالد ترامب واظب على التواصل هاتفياً مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في موازاة حركة ناشطة للمسؤولين الكبار في إدارة بايدن في اتجاه الحكومة الإسرائيلية، والتي تخلّلها «تسريب» الخطة الأولى الى الإعلام.في الواقع يمكن الخروج بملاحظات سريعة حول كل ما حصل.
ـ التزام نتنياهو بالشروط التي وضعتها واشنطن، وهي من المرّات النادرة في العلاقة بينهما أقله منذ اندلاع حرب غزة.
ـ تراجع التوتر الذي ساد مواقف طهران، وهو ما ألزمها بإيفاد وزير خارجيتها الى عواصم خليجية وعربية إضافة الى تركيا، للتحذير من استهداف منشآت حسّاسة.
ـ تراجع مستوى هجمات «حزب الله» لأهداف إسرائيلية نوعية (نتاليا ومنزل نتنياهو) وبأسلحة تُعتبر نوعية مثل الصواريخ الباليستية والمسيّرات المتطورة، والتي تخضع في العادة لإشراف إيراني كامل.
وكان قد سبقت الضربة الإنتقامية حركة مكوكية ناشطة بين واشنطن وطهران على مدى أسابيع عدة، وأيضاً تواصل مستمر بين البيت الأبيض وطهران، وصفته واشنطن بأنّه على خطين مباشر وغير مباشر. وهذه الحركة دفعت بعدد من المراقبين إلى الإعتقاد بأنّ ثمة تفاهمات سرّية لا بدّ أن تكون إدارة بايدن قد نسجتها بين إيران وإسرائيل، والتي من المفترض أن تشمل ملفات ملتهبة في المنطقة وفي طليعتها الساحة اللبنانية الملتهبة.
كذلك، فإنّ شكوك الإدارة الديموقراطية من نيات نتنياهو والتي اختفت بعد إتمام العملية من دون تسجيل أي زغل، عززت الانطباع بوجود صفقة سرّية، ما جعلت نتنياهو يتخلّى عن «إغراء» توظيف الضربة ضدّ حظوظ كامالا هاريس، وبالتالي تعزيز فرص حليفه المفترض دونالد ترامب. أي بتعبير مختصر، من الممكن أن تكون الضربة الإنتقامية قد أنتجت صفقة كاملة تجمع ما بين ساحات الحروب في المنطقة والانتخابات الأميركية، وحيث لإيران مصلحة في قطع الطريق على ترامب.
وما يعزز هذا الاعتقاد، إرتفاع نسبة المقترعين اليهود للحزب الديموقراطي مجدداً، والتي وصلت الى 72%. وحتى الأمس سُجّل اقتراع أكثر من 35 مليون ناخب أميركي في الانتخابات المبكرة مع إقبال جمهوري أكبر مما يحصل عادة. والأهم أنّ هذا الإقبال الجمهوري تركّز على عدد من الولايات المتأرجحة للمرّة الأولى في تاريخ الإنتخابات الأميركية. وهذا ما دفع بالحزب الديموقراطي وبعض مؤسسات الدولة العميقة الى دقّ جرس الإنذار مع تسجيل هذه الحماسة الجمهورية، والتي أظهرت التقديرات الأولية تفوّق ترامب على هاريس في ثلاث ولايات حاسمة ولو بنسبة واحد في المئة.وفي العادة، كانت الحملات الإنتخابية تُظهر أنّ نحو 95% من الناخبين الأميركيين لا يهتمون بالسياسة الخارجية إلّا في حال كانت بلادهم تخوض حرباً خارجية. ووفق الواقع الحالي، صحيح أنّ الجيش الأميركي لا يخوض حرباً مباشرة، لكنه يشترك بقوة في دعم إسرائيل بالمال والسلاح والدعم اللوجستي، وهو ما جعل الحرب التي تخوضها إسرائيل تتصدّر وسائل الإعلام الأميركية. ما يعني أنّ الناخب الأميركي سيتأثر بتطورات الحرب القائمة في الشرق الأوسط. وفي نظرة سريعة على الواقع الداخلي الأميركي، فإنّ رؤساء الولايات لا يقدّمون أي تقرير للرئيس الأميركي، وحيث لكل ولاية دستورها الخاص، ولذلك لا يهتم الناخب الأميركي بالأحداث الدولية. لكن في الوقت نفسه، هو فوّض السياسة الخارجية الى الحكومة الفيدرالية والتي تخضع لدستور مؤلف من 7 مواد فقط. لكن انزلاق البلاد الى تمويل سخي لحروب خارجية وتورط الجيش الأميركي في عمليات حربية ولو بنحو غير مباشر، والأهم تورط إسرائيل بالحرب، وحيث اللوبي اليهودي صاحب تأثير قوي في الرأي العام الأميركي، كل ذلك يجعل من الظروف الحالية للإنتخابات نكهة مختلفة.كذلك، فإنّ تأثير الدولة العميقة يبدو كبيراً ومؤثراً. وعلى سبيل المثال، تكفي الإشارة الى أنّ عدد الموظفين والمتقاعدين مع وزارة الدفاع الأميركية وحدها يبلغ نحو 3 ملايين شخص.
وبالعودة الى ما ظهر حول تصاعد «رائحة» حصول صفقة سرّية رافقت الضربة الإنتقامية الإسرائيلية المدروسة، فهنالك من يعتقد أنّ نتنياهو قد يكون فضّل الإنقلاب على مرشحه المفترض دونالد ترامب وإنجاز تسوية ليس مع الحزب الديموقراطي بل مع الدولة العميقة التي يناصبها ترامب العداء. وكان لافتاً أنّ ترامب الذي أظهر إلى الإعلام تواصله اليومي مع نتنياهو وتشجيعه على ضرب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، لم يدل بأي موقف إثر حصول الضربة، وآثر الصمت المطبق.
وفي الوقت نفسه، استعاد الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين نشاطه في اتجاه المنطقة، وهو باشر جولة جديدة إنطلاقاً من تل أبيب فور طي صفحة «مسلسل» الضربات بين اسرائيل وإيران. وهنا يبرز السؤال الأهم حول المنحى الذي ستؤول إليه الحرب الدائرة في جنوب لبنان، وما هو انعكاس هذه التفاهمات السرّية في حال وجودها على الجبهات المفتوحة؟ أضف إلى ذلك، تصاعد الحديث حول احتمال التوصل الى تفاهم يبدأ بوقف لإطلاق النار ويليه انتخاب رئيس للجمهورية. ولكن أصحاب هذه النظرية يتمسكون بأنّ حسم الإتجاه تفاوضاً أو حرباً سيكون مرتكزاً على واقع لبناني جديد مختلف جذرياً عمّا كان عليه قبل اندلاع الحرب، أي إزالة خطوط التماس بين إيران وإسرائيل عبر الحدود اللبنانية. وخصوصاً إذا ما جرى الأخذ في الاعتبار أهمية العامل السعودي الذي يملك الكتلة المالية التي يحتاجها لبنان بقوة لاستعادة أنفاسه. من هنا كان مفهوماً إصرار الرئيس نبيه بري على إطلالته عبر شاشة القناة السعودية «الحدث»، على رغم من الهجمات العنيفة التي كانت تتعرّض لها من الجهات المحسوبة على «حزب الله». وفي هذه الإطلالة تحدث بري عن أنّ الحل في حاجة إلى تفاهم سعودي ـ إيراني، ولهذا معناه الواضح.طبعاً الأسلوب السعودي القديم تغيّر من زاوية أنّه لم تعد هنالك «تقديمات» مجانية. والمقصود هنا أنّ ثمة متطلبات سياسية لا بدّ أن تسبق أي دخول مالي سعودي وتالياً خليجي. ومن هذه الزاوية يمكن مقاربة العناوين التي حملتها دائماً الرياض، والتي استكملتها بضرورة وصول رئيس للجمهورية تعتبره ضامناً لها وللإشراف على ما سيتمّ الإتفاق عليه. ويتردّد أنّ البحث بدأ يطاول إسم الرئيس المقبل للحكومة وتركيبة الحكومة الأولى للعهد المقبل، والتي يجب أن تكون بعيداً من المحاصصة الحزبية، على أن تتولّى مهمّة المرحلة الإنتقالية وترتيب الأمور بحدّها الأدنى، وأن تشرف على الإنتخابات النيابية، وعندها ستبدأ مرحلة الإنطلاقة الفعلية مع المساعدات المالية، وفي الوقت نفسه فتح أبواب النقاش الداخلي حيال تعديلات دستورية واسعة تتلاءم مع الدور الجديد للبنان وبعيداً من أي اصطفافات إقليمية.
واستطراداً، فإنّ احتمالات الإستمرار في الغرق في الحرب باتت تتساور مع احتمالات إنجاز المهمّات عبر التسويات السياسية الجدّية والبعيدة من البنود الملغومة. لكن لا أحد يستطيع أن يضمن منذ الآن المسار الفعلي للأحداث. أضف إلى ذلك، خصوصاً أنّ المفاوض الأميركي حمل شرطاً إسرائيلياً واضحاً أبلغه إلى بري بوجوب حصوله على التزامات عملية وجدّية وليس شفوية كما كان يحصل سابقاً، تضمن تطبيق مبدأ إبعاد لبنان عن الإصطفافات الإقليمية وضبط حدوده البرية والجوية والبحرية أمام أي تسرّب للسلاح مستقبلاً. وهذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد التشدّد الإسرائيلي بإقفال المعابر البرية من خلال استهدافها بالقصف.
أما روسيا، والتي تنتهج سلوكاً متوازناً خصوصاً في سوريا، فإنّ سكوتها يبدو بمثابة الموافقة الضمنية على إضعاف الحضور الإيراني، وهو ما يلعب لمصلحتها، ولو أنّها تدرك جيداً أنّ للحرس الثوري الإيراني حضوراً قوياً داخل تركيبة النظام، وهو ما يستوجب معالجته بتأنٍ دقيق. مع الإشارة هنا إلى ما كان راج سابقاً بأنّ التفاهمات الدولية أعطت لروسيا مهمّة الرعاية لسوريا وللولايات المتحدة المهمّة نفسها في لبنان.
ولكن تبقى المفاجآت واردة بدءاً من نتائج صناديق الإقتراع الأميركية، وهو ما يستوجب انتظار أرقامها ليل الخامس من تشرين الثاني المقبل.
وهنالك مقولة يعتمدها الرأي العام الأميركي كان قد قالها أحد واضعي الدستور الأميركي جيمس ماديسون ومفادها: «لسنا ملائكة ولن تحكمنا الملائكة». وهذه العبارة قد تكون تلخّص العقل السياسي الأميركي. ولكن مع إضافة مقولة أميركية أخرى، بأنّه لو كانت حكومات الدول المتحاربة تعرف سلفاً ما ستؤول إليه نتائج قراراتها لكانت قرّرت بطريقة مختلفة.
وخطورة المقولة الثانية، أنّ الأثمان تدفعها عادة الدول الصغيرة، ولا حاجة للقول إننا دولة صغيرة تمزقها النزاعات والتدخّلات الخارجية.
الجمهورية