وإن كانت غالبية هذه الاتفاقيات تتسمّ بطابعٍ دبلوماسيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديّ وتجاريّ، يتواءم مع طبيعة العلاقة المُعقّدة بين البلدين، اللذين تارةً كانا شقيقين وطورًا كانا لدودين. لا يُمكن إنكار أن بعضًا من هذه الاتفاقيات ومنها اتفاقيّة “الأخوة والتعاون” الشهيرة، قد أسهم وفي فتراتٍ عدّة بإضفاء الشرعيّة على “الوجود” أو الاحتلال العسكريّ السّوريّ للبنان. والّتي كانت بداية النهاية لأي أملٍ في جعل لبنان جمهوريّة مُستقلة، دولة سياديّة منفتحة على العالم، بلدٌ ديمقراطيّ بكل ما تحمله الديمقراطيّة من معنى سياسيّ وحقوقيّ ووجوديّ. وكانت الانطلاقة لحقبة جهنميّة، لم تُخلف وراءها سوى “تروما” الاستتباع، وصعود ثقافة “البلطجة” والميليشياويّة. أما المفارقة، فإن أصواتًا لبنانيّة مؤيدة للنظام، واظبت منذ سنوات على استذكارها واقتراح العودة إليها.
فما مصير الاتفاقيات المُبرمة والمجالس المشتركة بين لبنان وسوريا، بعد إسقاط النظام؟ وهل يُمكن الاستفادة من التغيير الجذريّ الحاليّ في سوريا، لـ “تنظيف” دفاتر الوصاية السّوريّة وإحقاق العدالة لضحايا النظام في لبنان وسوريا عبر هذه الاتفاقيات؟
للإجابة على هذه الأسئلة التقت “المدن” بالمحاميّة السّابقة في المحكمة الجنائيّة الدوليّة ICC والخبيرة في القانون الدوليّ، ديالا شحادة.
مصير المعاهدات
تستهل شحادة حديثها بالإشارة لكونه وفيما يتّصل بكلّ الاتفاقيات المعقودة (ضمنًا المجلس الأعلى السّوريّ – اللّبنانيّ) بين نظام الأسد ولبنان والحكومات اللّبنانيّة المتعاقبة، ومن الناحية القانونيّة، تبقى جميع الاتفاقيات المبرمة بين الدولتين السّوريّة واللّبنانيّة ساريةً ونافذةً إلى أنّ يتمّ إنهاؤها أو فسخها أو تعديلها من قبل إحدى الدولتين، إذ إنّها في نهاية المطاف عقودٌ رضائيّة بين حكومتين. وهنا تُعلّق شحادة بالقول: “وبالتالي، فمن المنتظَر أن تحسم الحكومة السّوريّة المقبلة موقفها ممّا إذا كانت ترغب في إنهاء بعض هذه الاتفاقيات أو تعديلها”.
فما هي الاتفاقيات الّتي من صالح لبنان، تعديلها أو فسخها؟ تسأل “المدن”.
“إذا عدنا إلى الاتفاقيات المعقودة بين سوريا ولبنان، نجدها تصبّ ظاهريًّا في مصلحة البلدين على صعيد التّعاون الاقتصاديّ والزراعيّ والقضائيّ والأمنيّ. غير أنّه من حيث التطبيق، لم نلحظ خلال العقود الأخيرة وعلى امتداد حكم أسرة الأسد في سوريا تطبيقًا صحيحًا لها، أو على الأقلّ لم يكن ذلك التطبيق في صالح الدولة اللّبنانيّة. كما أنّ الدولة اللّبنانيّة لم تبذل جهدًا كافيًّا لحسن تطبيق هذه الاتفاقيات تحقيقًا للغرض الذي وُقِّعت من أجله”. تقول شحادة. وتُضيف: “من مصلحة الدولة اللّبنانيّة الآن التعاون مع الحكومة السّوريّة المقبلة لمراجعة هذه الاتفاقيات بما يحقّق مصالح البلدين، إمّا بحسن تطبيقها أو بتعديلها وتحسينها”.
لتسليم مجرمي الحرب
شهدنا في أوّج الحرب السّوريّة وما تلاها، مطالبات تتعلق بتسليم مطلوبين أو ترحيلهم، واليوم يثور جدلٌ حول ما إذا كان لبنان ملزماً بتسليم مجرمي حرب من أعوان النظام السّوريّ إذا طلبت ذلك الحكومة السّوريّة العتيدة، استنادًا إلى اتفاقيات التعاون القضائيّ المبرمة بين البلدين منذ عقود ماضية، والتي أُلحِقت بها ملاحق في سنوات لاحقة، فهل لبنان مُلزمٌ بذلك؟
تُجيب شحادة بالقول: “لبنان وسوريا وقعا اتفاقيةً خاصّةً بالتّعاون القضائيّ منذ عام 1951. وتشمل هذه الاتفاقية تبادل المعلومات والتعاون الأمنيّ والقضائيّ، وأيضًا مسألة تسليم المطلوبين”.
تُنبّه شحادة لكون لبنان أمام خيارين في حال كان يرغب في استقبال واحتضان الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم في سوريا: فإما أن يطبق الصلاحية الموجودة بقانون العقوبات لجهة حقّه في محاكمة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم خارج لبنان أمام المحاكم اللّبنانيّة، أو أن يسلم هؤلاء الأشخاص السّوريّين المطلوبين من سوريا بخصوص جرائم ارتكبت في سوريا وليس في لبنان، متى طُلب ذلك من قبل الحكومة السّوريّة.
أما عن أصول التسليم، فتشرح شحادة: “نصّت هذه الاتفاقية لجهة الإجراءات الواجبة، لإثبات أن هؤلاء الأشخاص مطلوبون بجرائم جنائيّة وليس بجرائمٍ سياسيّة. وأيضًا، إثبات أن هذا الطلب ليس مدفوعًا بدوافع سياسيّة، وإنّما هناك أسس لجرائم جنائيّة خطيرة في سوريا”. وعلى متن شرحها لأصول التسليم، تنوّه على قضيةٍ أساسيّة، قائلةً: “لبنان، على الأقل منذ ما بعد الثورة السّوريّة، استخدم القضاء العسكريّ في المحكمة العسكريّة دائمًا من أجل محاسبة الأشخاص المعارضين لنظام الأسد، خصوصًا من السوّريّين ولكن في مرات كثيرة من اللبنانيين أيضًا، بحيث أن الأشخاص الذين انخرطوا في حقّ تقرير المصير المشروع بالقانون الدوليّ وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالتالي انخرطوا بالنزاع في سوريا، إما النزاع المسلّح أو حتّى بطرقٍ مختلفة مثل ممارسة مهنة الإعلام. حدث ذلك رغم أنّ التزامات لبنان الدولية لا تجرّم حقّ تقرير المصير ما لم يتضمن انتهاكات لقواعد الحرب. ومن الواجب اليوم مراجعة هذه السّياسة في لبنان، ليس فقط في ضوء القانون الدوليّ، بل أيضًا في ضوء تحسين العلاقات مع الدولة السّوريّة الجديدة الّتي لم تعد تحت حكم الأسد، وبالتالي ينبغي عدم تسييس القضاء على نحو يضرّ بالعلاقات مع دولةٍ جارةٍ كسوريا”.
السّجناء السّوريون في لبنان
أمّا في ما يتعلّق بالموقوفين السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة، سواء المحكومون منهم أو الذين ينتظرون المحاكمة وتصدّح أصوات ذويهم المطالبين بالإفراج عنهم أسوةً بالمعتقلين في سوريا ، فتؤكد شحادة: “هناك خياران في المستقبل: فإمّا أن تتعاون الدولة اللّبنانيّة مع الجانب السّوريّ لتسليمهم للسّلطات السّوريّة كي تنظر في ملاحقاتهم الجزائيّة، لا سيّما إذا كانت الجرائم قد ارتُكبت في سوريا وليس في لبنان، وإمّا أن يتم التوجّه نحو عفوٍ عامٍ يشمل هؤلاء الموقوفين، خصوصًا إذا طالت فترة انتظارهم وظلّت أوضاعهم معلّقة بلا محاكمة عادلة، وذلك بعد انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان وتفعيل مسار العفو، بما يحلّ إشكاليات عديدة تتعلّق بغياب المساواة في الملاحقة القضائيّة”.
وتتوّجه شحادة في حديثها إلى “المدن” إلى الجانب السّوريّ في هذا السّياق لتقول: “أشجع الجانب السوري الآن، والسّلطات السّوريّة والحكومة السّوريّة الانتقالية حتّى، أن تباشر من دون تأخير بالتّوجه إلى الدولة اللّبنانيّة بطلب تسليم السّجناء الموجودين، وخصوصًا نحن نتحدث عن الذين هم موجودين في لبنان بسبب ملاحقاتٍ جنائّية مرتبطة بما فعلوه في سوريا وليس بما فعلوه في لبنان”.
العدالة لضحايا لبنان
اليوم نشاهد احتفالات في الشارع اللّبنانيّ بانتصار الثورة السّوريّة، وبعض الاحتفالات تحمل آمالاً بأنّ سقوط النظام في سوريا يعني العدالة للضحايا الذين قتلهم أو أخفاهم النظام أو تواطئ في قتلهم مع حلفائه في لبنان، فهل سقوط النظام والمعاهدات القضائيّة بين لبنان وسوريا، قد تُمهّد الطريق أمام المحاسبة وإحقاق العدالة للضحايا من اللّبنانيين؟ تسأل “المدن”.
تُجيب المحامية بالقول: “هناك سلسلةٌ من الجرائم السّياسيّة، والاغتيالات السّياسيّة الّتي ارتُكبت في لبنان من قبل، مقتل رفيق الحريري، نتحدث خلال الحرب الأهلية اللّبنانيّة وبعدها. ومع التحفظ لجهة مرور الزمن على بعض هذه الجرائم، ولكن نذكر أن جرائم الإخفاء القسريّ لا تسقط بمرور الزمن لأنّها جرائم مستمرة، ومع التذكير بأن لبنان يُفترض أنه يطبق المعايير الدوليّة أو القانون الدوليّ للجرائم الجسيمة ذات الطابع الدوليّ، الّتي لا مرور زمن عليها، وبُكل الأحوال، تظلّ هناك حقوقٌ مدنّية، إذا كان هناك مرور زمن بالملاحقة الجزائية، وبالتالي من المهم جدًا أن نرى اليوم وجهًا جديدًا من العلاقة الّلبنانيّة السّوريّة فيما يختص بمحاسبة المرتكبين، وأن يُتمّ على الأقل تشكيل لجنة من أجل البحث في الجرائم الّتي وقعت بحقّ اللّبنانيين ويُشتبه بأن من ارتكبها أو من أمر بها كان جزءًا من النظام السّوريّ السّابق”.
وتختم بالقول: “لعلّه بذلك يظهر لنا أن الحكومة السّوريّة الجديدة راغبة بمحاسبة هذا النظام، ليس فقط على الجرائم الّتي ارتكبها في سوريا، ولكن أيضًا على الجرائم التي ارتكبها في دولة لبنان، التي بدورها دولة شقيقة لسوريا، وكل اللبنانيين، أو عددٌ أكبر من اللّبنانيين، يأملون بأن هذا التغير العظيم في تاريخ سوريا، يكون له آثار أيضًا على العلاقة بين الدولتين”.
المدن